فأر الريف يحكي قصته - الموسوعة المختصرة

الدقة والأمانة في الطرح

فأر الريف يحكي قصته

فأر الريف يحكي قصته

شارك المقالة
أنا فأر أعيش في الريف. قبل مدة طويلة، كنت قد مررت ببعض مشاعر الملل من الحياة الرتيبة التي أعيشها هنا.. ورغبت كثيرا في تغيير الجو، لكن لم يكن الأمر ممكنا لي، فلم يسبق أن خرجت من الريف مسبقا. وليست لدي الجرأة لاقتحام غمار المجهول.

وذات يوم، وبينما أنا جالس أفكر، إذ سمعت صوت طرقات على الباب.. أسرعت لفتح الباب، فقد طال الزمن منذ أن تحدثت مع شخص ما، وشعور الوحدة يكاد يخنقني. فتحت الباب فإذا بصديقي فأر المدينة حاملا محفظته. لقد أتى لزيارتي وتكبد عناء السفر لأجل القدوم عندي. يا له من يوم جميل! رحبت به، وجلسنا نتبادل أطراف الحديث، ونسترجع الذكريات.

بعدئذ، استأذنته للانصراف لإعداد الطعام، بينما ذهب هو للاغتسال للتخفف من آثار الإعياء التي كانت بادية عليه. وحين انتهيت من تحضير المائدة دعوته للقدوم.. فأتى يمشي وأمارات الغضب بادية على وجهه. استفسرت عن الأمر، فعلمت منه أن الماء لم يكن كافيا. فاعتذرت له عن الأمر، لأني أحصل على كفايتي من الماء يوميا من النهر ولا أسرف في استعماله.

بعدها شرعت أقدم له الطعام، فانتبهت إلى أنه لم يكن راضيا، كل ما وضعته أمامه من طعام كان طبيعيا، عبارة عن خضراوات وألبان، فأخذ يعيب هذا الطعام، ويفتخر بأنواع الأطعمة المتوفرة في المدينة.. فآلمني هذا الأمر. حاولت جاهدا أن أبين له مدى فائدة الطعام الطبيعي، لكن ذلك كان بدون جدوى. فشعرت بالإحباط لكونه لم يتناول شيئا مما قدمته له.

أردت أن أغير هذا الجو الكئيب، فدعوته للخروج إلى المزرعة للتنزه قليلا، وقد أعجبته الفكرة. وبينما نحن نمشي، مررنا على ورود ملونة ونباتات وفواكه وخضروات، فأبدى إعجابه بالهواء العليل والرائحة الزكية وزغاريد الطيور. وبينما نحن كذلك إذ مررنا بقرب سماد طازج، فانبعثت منه رائحة كريهة. وبدل أن يتجاهلها ويمضي، كما أفعل أنا عادة، فإنه أخذ يُعَلِّقُ وينتقد. لقد انتقص من شأن الحياة في البادية، وعاب طعامي ووصف هذا المكان بالقذارة والعفن. لقد أغضبني هذا الأمر، لكني أمسكت زمام نفسي، وصبرت عليه لأنه ضيف أتى لزيارتي، وعليَّ إكرامه قدر ما أستطيع.

لقد أخذ يتفاخر أمامي بمدينته، وجمالها، ونظافتها وطعامها اللذيذ. حتى أقنعني بضرورة زيارته لبضع أيام. فشرحت له كيف أنني لم أغادر البادية سابقا، فوضح لي معالم الطريق، وأعطاني خريطة أتبعها للوصول إلى منزله. ثم ودعني وغادر.

قضيت ذلك المساء حزينا، رغم أني تظاهرت أمامه أنني على ما يرام. لقد ضايقني سلوكه، وأقواله التي انتقد بها طعامي وحياتي. لكن مع ذلك، قررت أن أزوره لأرى مدى روعة الحياة التي يزعم أنه يعيشها.

خرجت من البيت والخريطة بيدي، فتتبعت الاتجاهات حتى وصلت المدينة. وبينما أنا أحاول عبور إحدى الطرق، إذ بسيارة مسرعة متجهة نحوي كادت تصدمني. لقد نجوت بأعجوبة. كما أن الضوضاء والضجيج شوَّش على ذهني، وأصابني بالصداع. وبعد عناء طويل وصلت لمنزل صديقي.

رحب بي في منزله، ودعاني إلى الجلوس. وبعد لحظات أخبرني أن الخادمة قد قامت بتحضير الطعام. استغربت الأمر جدا واندهشت؛ لم أتوقع أن هناك خادمة تعد له الطعام، بينما أقوم أنا بكل شيء وحدي.

تقدمنا نحو المائدة، وأنا جد مسرور، لقد كانت ممتلئة بالجبن والمعكرونة والكعك وغيرها مما لذ وطاب من أصناف الغذاء. جلست لأتناول الطعام. وفجأة رأيت الخادمة تجري صوبنا وبيدها عصا وهي تصرخ. هربنا من هناك وقلبي يكاد يتوقف. لقد صُدمت لأني اعتقدت أن الطعام كان معدا لنا!

حاول صديقي تهدئتي، ودعاني إلى الخروج في جولة. فزرنا متجرا في الجوار، كان مليئا بالطعام، ومرتبا ترتيبا بديعا. وبينما كنت منبهرا وصديقي يمدح المكان، إذ هاجمتنا قطة كبيرة كادت أن تمسكني لولا لطف الله بي. وقد نجوت مجددا بأعجوبة، وأنا أكاد أن أموت فزعا.

استرجعت أنفاسي المنقطعة، وتوجهت مع صديقي لمغادرة المكان، وأثناء مشينا مررنا قرب شيء غريب، فجذبني صديقي إليه فجأة وقال لي: (احذر! إنها مصيدة). لم أفهم، فشرح لي كيفية اشتغالها وأنها إن أمسكت بي فسأكون في عداد الأموات.

لقد أصبت بالرعب. خرجنا من هناك وأوقفت صديقي. أخبرته أني لا أتحمل هذه الحياة أكثر، وأنني لم آت إلى المدينة لأجل هذا. منذ مجيئي إلى هنا لم أرتح دقيقة. لقد عشت في رعب وفزع وخوف وضوضاء. أخبرني أن علي التعود على الأمر وأنه سيكون عاديا مع الوقت، لكني كنت قد قررت أن هذه الحياة لا تلائمني. لا أريد أن أعيش حياة ملؤها الخوف والفزع والهروب. لا أريد أن أشعر في كل لحظة أن حياتي مهددة بالانهيار والزوال.


وَدَّعْتُ صديقي، وعدت أدراجي إلى الريف؛ إلى مسقط رأسي. إلى المكان الجميل الذي أنعم الله به علي، إلى الطعام الصحي الذي اعتدت تناوله، إلى الهدوء والسكينة والطمأنينة. الآن فقط أدركت أن حياتي هذه رائعة، وأنه ليس علي أن أشعر بالملل، هناك أمور كثيرة يمكنني القيام بها في الريف للتخلص من الملل، وليس علي زيارة المدينة مجددا، فما رأيته وعشته هناك يكفيني.

أتساءل كيف استطاع أن يعيش تلك الحياة، هل يصبر على كل ذلك لأجل لقمة طعام؟ إن راحتي وسعادتي أهم من ذلك. كما أني أحصل على الطعام الكافي هنا. لن أشعر بعد اليوم بشعور النقص أمامه ولا أمام أي شخص يأتي من المدينة، فقد صرت على دراية بما يعيشونه هناك.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الصفحات